أبو عبد العزيز القيسي : موقع المسلم
الجزء الأول:
تعتبر الطقوس الحسينية أفضل الوسائل التي يستخدمها المراجع ورجال الدين الشيعة، والرواديد لتحقيق أغراضهم في اختراق المجتمع السني وزعزعة أركانه؛ ومن جهةٍ أخرى هم يبنون بيت الطائفة الشيعية ويصنعون لها هويتها المميزة من خلال توظيفهم لتلك الطقوس.
ونقصد بالتوظيف هو تلك الأداءات التي يقوم بها الشيعة ومن خلال تلك الطقوس للتأثير على النظام الاجتماعي وهيكليته بسلبية تامة، ويكون ذلك التأثير من خلال التأكيد على محاور ثلاث؛ تكون عامة ومطردة في كل الطقوس والعزاءات؛
الأول: ذكر فضائل أهل البيت ومناقبهم الأسطورية...، وبشكل خرافي ينزع عن أولئك المتلقين صفة العقل.
الثاني: الإعلان عن مظلومية أهل البيت عليه السلام، بالوضع والافتراء وذلك من أجل التأكيد على قضية الولاء والبراء.
الثالث: العمل على سلب شرعية كل الأنظمة السنية؛ وذلك من خلال التأكيد والتمثيل على كفرهم وردتهم عن دين الله، ومناصبتهم العداء لأهل البيت وأشياعهم، وهذا المحور غرض أساسي وصميمي من تلك الطقوس، وهذا التوظيف في تلك المحاور الثلاث يتحقق من خلال طريقين؛
أحدهما ظاهر، وهو ما يطبق بقصد مسبق، والآخر مستتر وهو ما يخلو من ذلك القصد، وإنما قد يكون تديناً وتعبداً. وسنستعرض في هذا الجزء من المقال الغرض الأول من تلك الأغراض ألا وهو الغرض السياسي.
الغرض السياسي:
لا جرم أن أهم معطيات العزاءات والطقوس منذ أن تأسست وحتى اليوم هو تحقيق ذلك الغرض السياسي الذي أُنشأت من أجله، وهو إسقاط الشرعية عن الأمة السنية وبشكل مطلق، والمتتبع لتلك الطقوس يجد ذلك التوظيف لتلك العواطف والأحاسيس من أجل تحقيق المرامي السياسية والتي يخطط ويؤسس لها أولئك المراجع والدعاة، يقول الخميني بشأن هذه الطقوس: [لا تحسبوا أن الغاية من اجتماعنا في المجالس الحسينية هو البكاء أو التباكي على الحسين سلام الله عليه فقط، فلا الإمام بحاجة إلى البكاء، ولا البكاء في حد ذاته يجدي في شيء، إنما في المجالس تجمع للناس، وهنا يكمن الهدف السياسي منها.. والمعطى السياسي هو أهم معطيات تلك التجمعات](1).
إذن وبشكل عام يمكننا اعتبار تلك المجالس وتلك الطقوس الوسيلة الأهم بيد أهل التشيع المناهضين للحكومات السنية على مرّ التاريخ، لتفعيل النشاطات السرية التي تتبع تلك الطقوس والتي تعبّر أصالةً عن دين يناقض دين الإسلام جملةً وتفصيلاً.
إن الإشكالية الأهم في تلك الطقوس هو تلك الوجوه المتعددة، وكل وجه منها يستطيع إشغال الحكومات التي تسمح بإقامة تلك الطقوس والعزاءات والمجالس لسبب أو لآخر، إذ إن الدول التي تجري فيها تلك الطقوس وخاصة - السنية – تجد نفسها في حيّص بيّص، وتصبح في حالةٍ من فقدان الرشد، وذلك أنها إنْ سمحت بإجراء تلك الطقوس على اراضيها توّسع القوم في تلك الأعمال مستغلين حالة الإباحة، معتبرين ذلك نصرا على الدولة التي سمحت لهم بذلك، وليس نوعا من عدالة الدولة وديمقراطيتها، بل إنهم لا يكتفون بزيادة وحِدة تلك الطقوس، وإنما ينتقلون إلى الخطوة الأخرى الأكثر تقدماً، إلا وهي المطالبة والتحريض على الحُكم القائم بدعوى الحقوق والحريات العامة.
كما أن الدول التي تسمح بتلك الطقوس تستنزف الكثير من طاقاتها ومقدراتها لإدارة فوضى تلك الطقوس ما لله به عليم، وأي تقصير في الإحاطة بتلك الفوضى فإن المتهم بالتقصير، وإحداث هذه الفوضى الدولة نفسها، لا من قام بتلك الطقوس..
فإغلاق الشوارع، والأماكن العامة، ومؤسسات الدولة، والمصارف، إضافةً إلى حالات التلوث البيئي المتمثل بمخلفات تلك الأطعمة، والنيران!، والعبث بالمرافق العامة، وحالات الضجيج والفوضى اللامتناهية، يتبرأ منها أصحاب تلك الطقوس، وبكل صلف، ويرمون كل تلك الآثار على الدولة التي سمحت لهم بذلك، مع صرفها ملايين الدولارات من أجل السماح لتلك الفوضى بالمرور.
وإن ننسى، فلا يمكن أن ننسى أثرها السيئ – الطقوس - على الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية والصحية في تلك الدولة التي سمحت بممارسة تلك الطقوس، فكم من أيام الدراسة قد أهدرت وعطلت لهذا السبب، وكم من المرضى منعوا من الوصول إلى المشافي بسبب تلك السرادق المنصوبة في منتصف الطريق، ولك أن تعلم بعض آثار تلك الطقوس على المستوى التعليمي في العراق من مدة الدراسة فيه؛ التي باتت لا تتجاوز الثلاثة أشهر من أصل الستة، والباقي من الأيام مهدورة ومعطلة بين الطقوس وبين مواليد الأئمة ووفياتهم.. ولك أن تعلم أن تسعين بالمائة من مقدّرات الدولة من الناحية الأمنية والمادية تصرف في تصريف تلك الطقوس والمناسبات..
وليس لك أن تعجب وأنت في بلد الرشيد أن الناس يحبسون داخل بيوتهم بسبب تلك الطقوس لأكثر من خمسة عشر يوماً بقليلٍ أو كثير، وفي أغلب المناسبات خاصة زيارة الأربعين..
أما إن شاءت الدولة أن تحفظ كرامة مواطنيها بمنع إقامة تلك الطقوس؛ فإنها لن تسلم من الأصوات المطالبة بالحريات والحقوق التي سترتفع من كل مكان، وخاصة من بلاد الغرب، ثم بعد ذلك تنشغل الدولة بدعاوى منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات المجتمع المدني، وغيرها من تلك المنظمات المشبوهة، وبهذا الفعل ينشغل رجالات الدولة المخلصين بهذا العويل وذاك الضجيج، وهم في كل حالاتهم مذمومين مقدوحين ساقطي العدالة والضمير، ولن تخرج الدولة من تلك الدوامة المفرغة إلا بأن تكون محكمة من الداخل، وذلك بالاستعانة بجهود الخيرين والمصلحين من أبنائها.
إن الداعين إلى تلك الطقوس إنما يحملون تحت أرديتهم ونفوسهم روح الثورة ضد الحكومة القائمة، وهم في ذات الوقت يدّعون أن تلك الطقوس إنما هي عبادات محضة ولا تمس سياسة البلد لا من قريب ولا من بعيد؛ وقد سألت أحدهم والطقوس بمرأى العين والبصر، ومنظر تلك الحشود الذي يشبه مسيرات تلك الضباع الضارية، والرايات تتناثر يميناً وشمالاً، وأصوات الصارخين واللاطمين تنبعث من كل مكان إلى الحد الذي لا تكاد تملك نفسك التي بين جنبيك من هول هذا الضجيج والعويل وتلك الحركة التي لا تصدر حتى من بهيمة الطريق..
قلت له: [هل هذه عبادة منزلة من رب البريات]، فأجاب وهو في غاية الانزعاج: [إنها مظهرٌ من مظاهر القوة]!
وقد صدق وهو الكذوب، لأن تلك المظاهر ما هي إلا مظاهرات ومقدمات لثورة قادمة تحرق الأخضر قبل اليابس، وهذه المظاهرات وإن لم تزعزع أركان الدولة، فإنها تشغلها وتشغل شعبها الذي من حقه عليها أن يحظى بملاذ آمن، وهذه الطقوس والحشود تهديد صريح وفج لكل سني يمر أمام تلك المسيرة، فلطالما رفعوا تلك العبارات التي تقول: [اليوم وغداً يا هند]، ويقصدون بها التهديد والوعيد لكل أهل السنة والجماعة.
ولك أن تعلم أن هذه الطقوس أجبرت الكثير من أهل السنة في العراق إلى الانضمام إليها، خوفاً من سطوة أصحابها؛ وتلك خطوة في طريق التشيع.
ومهما عمل الحاكم السني لإرضاء تلك الطائفة فأنه لن يجني غير الويل والخسران، وقد عاصرنا تلك الأحداث التي قدّم فيها صدام حسين وخاصة في فترة التسعينات – فترة الحصار الجائر على العراق- الكثير من التنازلات، فسمح لهم بالعمل بجميع أنواع تلك الطقوس، وأنواع الزيارات والمسيرات والاحتفالات، وقد كنا نسمع ضجيجهم وعويلهم وهم يتفاخرون ويعتبرون ذلك نصرا على الطاغية صدام حسين، ولم يعتبروه كرماً منه وفضلاً وعدلاً، وكان من نتاج هذا التسامح من ذلك الحاكم أن كان هؤلاء أسبق الثائرين عليه، وأوحد الشامتين بموته وإعدامه، ولم يبخل دعاة أهل السنة والجماعة بالنصح والإرشاد لقائد العراق صدام حسين آنذاك وبينوا له خطر التشيع على الدولة، وأنهم – أي الشيعة - فئة لا ترقب في البلاد وأهلها من أهل السنة إلا ولا ذمة، فأبى القائد – الملهم - وأعتبر ذلك نوع من العبث، وان ذلك تجاوز على حقوق الطائفة...فكان ما كان... وصبراً أيها الجمل.
ولقد تتابع التوظيف السياسي لمجالس العزاء لكل الحكومات الشيعية من البويهين والصفويين والعبيديين والقاجاريين، وحتى المغول، وصولاً إلى عصر رضا خان البهلوي وإلى زمن الخميني، ولم تتردد هذه الحكومات الشيعية في توظيف أي وسيلة من أجل اجتثاث الحكم السني أو زعزعته.
أما المحتوى السياسي الآخر، وهي نقطة مناقشتي الثانية؛ إن هذا الطقس الديني لا ينتهي تأثيره بانتهاء المراسيم وعودة الجميع إلى ديارهم، ذلك إن ممارسة الطقوس الدينية تجعل الإنسان يستخدم ما استجمعه من أيام المشاركة في تلك المراسيم من خطابات دينية وتوصيات ونصائح وتوجيهات ويعيد إدخالها في حياته اليومية ما بعد انتهاء المراسيم، أي إنه يضع موضع التطبيق في حياته اليومية أسوأ ما استلهمه خلال شهرين من تلك الممارسة، فيخرج متمسكا بتلك التعاليم، خاضعاً لها، متكلا على شفاعة الأئمة في تحقيق أمانيه، بدلاً من التدخل الفاعل لتحسين شروط حياته،إذ إن تلك الطقوس تعيد برمجة وتوجيه تفكير الشيعي، وفقا لما تعلّمه واستلّهمه، من هنا فإن التأثير السياسي لطقوس عاشوراء تكمن في إعادة برمجة وتوجيه الناس ليكونوا أكثر [شيعية].
الجزء الثاني:
2- التوجيه ومواكبة الأحداث
الغرض الثاني والذي سنستعرضه في هذا الجزء من هذا المقال هو: التوجيه ومواكبة الأحداث؛ فلاشك أن الطقوس تشكل مادة جيدة في التوجيه والإعلام الحربي، كما أنها تشكل أداة فذة تتصل وتواكب الإحداث، وقد يكون هذا الكلام غريبا بعض الشيء لمن لم يخبر عقيدة التشيع، ولكن وبعد كل هذه الأحداث الجسام التي جرت وتجري على أمتنا، يجب أن لا يكون هنالك غريباً فيما يصدر من هذه الطائفة، فالشيعي ومادام في وسط هذا البحر المتلاطم من الشعوب السنية فهو عاقد النية على الحرب، تلك النية اقتضتها، بل فرضتها عليه الروايات التي – زعموا – أنها جاءت عن أهل البيت سلام الله عليهم، وخير أداة للتواصل ومواكبة الإحداث، وتوجيه البوصلة بالشكل الصحيح والمناسب في هذه الحرب هي تلك الطقوس، وقد رأينا نماذج واضحة لهذا التمثيل منذ سقوط بغداد 2003.... وحتى يومنا هذا، ففي كل حدث وكل مناسبة نجد تلك الطقوس حاضرة وبقوة وفي جميع المشاهد السياسية والعسكرية وحتى الاجتماعية منها، ومن هنا نجد أنها قد أسهمت وبشكل كبير في نقل الصورة التي في مخيلة.... المراجع إلى أذهان العوام، الذين باتوا مجرد أدوات لتنفيذ ما يخطط له أولئك المراجع، سواء بأساليبهم البيانية، أو من خلال القصص والاستعراضات المباشرة والتي تتناسب مع أفهام المخاطبين، وتعد تلك الطقوس أحد أهم العوامل في تجديد الوعي وتوجيه تلك الحشود نحو الهدف المنشود، ولإدراك مراجع التشيع لتلك الأهمية ولتلك الخصيصة، فإنهم يسعون جاهدين لتأخذ امتداداً أكبر طوال أيام السنة، لتعطي تلك الحشود دفعة كبيرة من الحماسة والتواصل، كما إنها وسيلة مهمة وفعالة من وسائل الإرشاد المذهبي والطائفي الذي ينشده المراجع، وهي كذلك وسيلة فعالة للتخدير والتذكير في آن واحد، فهي لا تخدر عقله وتمنعه من التفاعل مع محيطه بصورة طبيعية فحسب، بل أنها تجبره على الخضوع والانقياد لسلوكيات تلك الجموع الغفيرة تحت تأثير العقل الجمعي، ويجتهد المراجع والدعاة وخطباء المنابر والرواديد إلى جعل تلك الطقوس تحاكي الحدث الجاري وتهيأ لما سيجري في القادم من الأيام، كما أنها تنثر بين ثناياها الكثير من الأخبار الغيبية والتوقعات الجازمة لأجل استثارة حماسة تلك الحشود وتحرك فيهم الرغبة لمواصلة الطريق.
حشد الجمهور
لا يمكن إغفال دور هذه الطقوس بصورة عامة والمسير إلى قبور الأئمة بصورة خاصة في تعبئة وحشد الجمهور الشيعي نحو الغايات التي حددتها الروايات والتي توصي بمحاربة الظلم واستئصال شأفته، مشيرة من طرف خفي أو صريح إلى إن أعظم مصاديق الظلم الذي يجب محاربته هو الوجود السني في أي مكان، وهذه الحقيقة وعلى الرغم من ظهورها لكل من قرأ صفحات التأريخ، لم تعد خافية على أي مسلم عاصر وكابد أحداث ومآسي العقد الأخير، إلا أننا نرى الكثير من أهل السنة يتجاهل تلك الحقيقة ويعدها ضرب من ضروب الخيال، بل يعدها أوهام ضاقت بها أحلام المتشددين من أهل السنة، وتعاموا عن بحار الدم التي جرت ومازالت تجري في العراق وسوريا واليمن والبحرين، وفي كل بلد فيه مُكنة للتشيع، وإنني وبحكم المعاشرة والمناظرة والمكابدة، وبحكم أنني كنت ممن يعتقد تلك العقيدة، ويدافع عنها إلى حد الهوس والجنون، أقول وبكل صدق أن الشيعي لا يرى مصداق للظلم إلا في ذلك الشاخص السني، وإن ابرز تجليات ذلك الظلم إنما يتمثل في ذلك الحاكم الذي ينتسب إلى أهل السنة، أما بقية مظاهر الظلم في أي مكان أو أي بقعة في العالم فهي لا تعنيه بشيء، وهم يتغافلون بشدة عن ذلك الظلم الذي يصدر من أبناء الطائفة، بل إني رأيت الكثير منهم يطربون لظلم الطائفة ويعدونه من تمام العدل والجزاء الذي يجب تحقيقه على الأرض السنية.
إن تلك الطقوس تعد فرصة هائلة في تثبيت الهوية الشيعية في أي مكان يمكنهم الوجود فيه، بل إنهم ومن خلال ذلك المسير الطويل لتلك المراقد المزعومة يسوقونه على أنه هوية الدولة وإن حوت ملل وطوائف أخرى متعددة، وهذا التحشيد والتسويق لهذه الهوية يتم من خلال التركيز على محاور عدة في تلك الطقوس منها وأبرزها خطاب المظلومية، الذي أجادوه وبرعوا فيه، فهم لم يقتصروا على تلك المظلومية المحصورة في جنبات التأريخ والاكتفاء ونفخ النار في رمادها، وإنما استحدثوا الأزمات والمظالم الآنية والتي تقرر مظلوميات التاريخ المأزومة وتؤكدها، فكم من عوام الشيعة قد ذهبوا ضحية التفجيرات والأزمات المفتعلة، وما من سبب، إلا لتقرير تلك المظلومية والتأكيد على أنه ليس هنالك من عدو للشيعة والتشيع غير أهل السنة. ولم يعد خافيا عند أهل السنة في العراق بدايات ومآلات تلك المسرحية، والتي تبدأ بسيل من دماء الشيعة ثم تنهي بالثأر والانتقام من أهل السنة وصب العذاب عليهم صباً، تبدأ تلك المسرحية بذلك التفجير المزعوم والذي ينسب بداهة إلى أهل السنة، ثم تتسلسل فصول المسرحية بتلك المشاهد المحملة بفيض الدماء والأشلاء، ومظاهر السحل والحرق وثقب الرؤوس بالمثاقب، إنها مسرحية تتكرر كل أسبوع، وإن عزت المظالم على هؤلاء فكل شهر، والشهر كثير، ثم يأتي بعدها خطاب المظلومية ليؤكد ويؤصل أهمية إزالة وإزاحة تلك المظالم.
إن إحياء تلك المناسبات من شأنه أن يعيد تقديم التأريخ وحتى صياغته من جديد، ففي تلك الطقوس يجري صياغة التأريخ لمعركة الطفّ وكأنها مزيج لذلك الظلم المتواصل من قبل أهل السنة على رؤوس الشيعة، ليبين أنها ليست معركة الأمس الغابر، والذاكرة الشيعية ليست تلك الذاكرة المثقوبة، بل هي تلك الذاكرة التي تؤسس وتؤصل وتضخ المزيد من أحجار الحقد والكراهية لتجعل من تلك المعركة التي لم تتجاوز زمنيا بضع ساعات أنموذجاً حياً لثأرٍ لن ينتهي ولو بقيام الساعة، وهي تمثل دعوة صريحة لكل شيعي بأن يجعل كل يوم على أهل السنة عاشوراء، وكل أرض يتواجد فيها أهل السنة كربلاء.
إن هذه الطقوس والزيارات تقوم بعملية حشدٍ غير مسبوقة.... في أي صفحة من صفحات التأريخ، ولك أن تعلم تأثير هذا الحشد وأنت تسمع الأطفال عندما يرون مقاتلي الحشد الشيعي وهو يصب جام غضبه وحقده على المناطق السنية في العراق وسوريا واليمن مرددين بكل تعبد ممزوج بالحقد والغيض: [عليّ وياك عليّ].
لك أن تعلم مقدار هذا التثقيف السلبي الذي تقدمه تلك الطقوس من خلال ممارسة طلاب المدارس الذين لم يبلغوا بعد سن الرشد وهم منهمكين في تنظيم تلك المواكب أو الذهاب – كمشّاية – غير مبالين بضياع مستقبلهم، لك أن تعلم أن أجيال العراق اليوم والتي تجري فيه تلك الطقوس إلى حد الهوس قد تأهلت وتبرمجت بأنه لا يجب التخلي عن تلك الطقوس لأي سبب كان، ولو بالتخلف عن مقاعد الدراسة والعمل، لك أن تعلم إن أطفال العراق اليوم يقومون بضرب أنفسهم بالقامات وضرب الزناجيل وارتداء السواد وذلك من أجل الوصول بهم رجالاً يثأرون لدم الحسين أو "ضلع" الزهراء سلام الله عليهما...
وفي ظل هذا المناخ يجري ملياً تعبئة الشيعة بإحياء تفاصيل معارك لم تجرِ إلا في خيال أولئك الموهومين ومن ثم عرض آلاف القصص المفجعة التي تتلى عند كل مناسبة وفوق كل منبر، ومعها سرد لأعمال القتل والذبح لأولئك الصغار والكبار، وبتلك الطقوس والقصص المختلقة تبقى الذاكرة حية، وبدون هذا الخطاب، ليس من طريق للحشد، وهو ما يجعل ممارسة هذه الطقوس أمرا حيويا لأولئك المراجع وهم يتأهبون وبكامل قدرتهم وعلى امتداد شهرين لإحياء هذه المراسيم، التي من ابرز تجلياتها إنهاك الدوائر ومؤسسات الدولة من صحة وخدمات وتعليم وأجهزة أمنية، مع عقد الاجتماعات وتخصيص القنوات الإعلامية الرسمية والأهلية لنقل أخبار تلك الطقوس والزيارات، وتحويل الجامعات والمدارس أماكن لممارستها ورمي كل من تخلف عن الالتحاق بتلك الطقوس من أولئك الطلاب والمدرسين والأساتذة والكوادر الخدمية والتعليمة بتهمة التسنن ومعاداة أهل البيت وبالتالي يكونون عرضة للغيلة والغدر واقلها التهجير بعد المضايقة والخوف من أن تطالهم تهمة الإرهاب بطريقة أو بأخرى، وما يتبع ذلك من هجرة الكفاءات وتعطيل دروس العلم وعمل الدوائر والمؤسسات دون أن يكون هنالك حسيب أو رقيب، والويل لكل من يناقش أو يشكك في فرضية وقدسية وأولوية تلك الطقوس، وكل ذلك مفروض بقوة سلطة العوام، إضافة إلى سلطة المراجع الذين هم بين التسليم والتعتيم، وبين الخوف من سلطة العوام والحرص على المنصب والسلطان، وكل ذلك مرتبط ارتباطا وثيقاً وصميمياً بتلك الطقوس والشعائر، وهؤلاء المراجع وهم على استعداد عظيم لكل هذا التجييش ومع حيازتهم للسلطتين الدينية والدنيوية، أو قل إن شئت السياسية فإنهم غير مستعدين على الاطلاق للنظر أو الاستجابة لتلك الحاجات المعيشية واليومية كمتطلبات الصحة والتعليم ومكافحة غوائل الفقر، بل إن همهم الأوحد هو أدلجة الشعب برمتهِ وإعادة صياغة وعي الشيعي، كشيعي من خلال هذه الطقوس.
الجزء الثالث: ترسيخ الاعتقاد
وفي هذا الجزء الأخير سنستعرض الغرض الرابع من تلك الأغراض ألا وهو ترسيخ الاعتقاد فلا جرم أنه ليس من السهل الغوص في أعماق ودخائل تلك الطقوس وخاصة لأولئك الذين لم يخالطوا أهل التشيع ولم يكابدوا صوره ومظاهره على الأرض بصورته الحقيقية، وما تمثله حرفية تلك النصوص التي تدعوا إلى إقامتها كلما توفر المناخ الملائم...، إذ ليس من السهل الوصول إلى رؤية آثارها على المعتقد وكشف خفايا تلك العلاقة الحميمية بين هذه الطقوس وتلك الروح المأزومة بالثأر والانتقام.
إن اللبنة الأولى في بيان حقيقة وآثار تلك الطقوس هو طريقة تفكير الشيعة سواء أكانوا من العامة أم من المراجع أو النخب، فقد ساهمت تفاعلات البيئة والتربية وذلك الموروث المأزوم وطرق التعليم في صناعة وبلورة وصيرورة تلك الطقوس، ومن ثم ارتداد صورها ومظاهرها على هذا العموم، وبمرور الزمن تحولت تلك الطقوس إلى حقيقة لا تقبل الجدل، وإيمان يجب الدفاع عنه بشراسة، ووصف من يشكك فيها بالزندقة والنصب أو العمالة لأصحاب الدولار، وبين الحقيقة والظن، وإيقاع تلك الطقوس، تتحول الأفكار إلى قيم ومشاعر متأصلة في داخل النفس يستحيل المساس بها، ومن ثم تتحول بتلك الظلامات والتراكمات إلى اعتقاد راسخ لتلك الحشود والجموع، وتتشكل الصور والتعاليم والواجبات والمبادئ ثم تفرز مجموعة من التقاليد والأعراف والعادات ذات الطبيعة الشعبية والتي يتم ترسيخها في القلوب والعقول بشتى الطرق والمشاهد والمواقف، ثم بعد ذلك تنشأ تلك العاطفة بين ذلك الفرد ومحتوى تلك الطقوس بما يدغدغ مشاعره ويغذي حاجاته النفسية ويزرع فيه مشاعر الحماسة والدعوة إلى الثأر والانتقام، كما يعزز ارتباطه بمطلق الأئمة الاثني عشر لدرجة لا يدانيها أي ارتباط ولو كان بالذات الإلهية المقدسة.
إن الاعتزاز بتلك الطقوس والدعوة إليها والمثابرة في أدائها، يعزز الاعتقاد بمطلق الأسطورة والخرافة التي تغيب العقل وبصورة مطلقة وفجة، بما يدعوك إلى الاعتقاد باستحالة تغييره، ومن ثم الثبات عليه مع كل ما فيه من تناقضات، بل انه يقابل كل الأدلة اليقينية بالتجاهل والحذف، وينظر إليها نظرة دونية.
إن هذه الطقوس تتسم بكل مظاهر الانغلاق والتعصب والتطرف، وهي تدفع بصاحبها نحو تغييب العقل والارتماء بأحضان الظلام والخرافة مع الحفاظ على مراتبه ودوائره بما فيه من معتقدات لا تقبل بها حتى سارحة الإبل، تأسر الإنسان وتجعل منه عبداً ضالاً منحرفاً، ووحشاً يفترس أخوه الإنسان، وينطبق هذا الكلام على كل من تمرس وتمترس بتلك الطقوس وتمكن منها وتمكنت منه، ومن كان حاله هكذا كان قادرا على إدارة فنون المعتقد، وأصبح مرجعاً وقدوة لمجاميع الشر، وكلما أوغل الشيعي في تلك الطقوس كلما أوغلت نفسه بالفساد والرذيلة، وأصبح.... أهل البيت وحبهم مجرد شعار وجسر للعبور باتجاه مصالحه ومنافعه الذاتية، وهو على استعداد تام وكامل لشطب الأمانة والمثل والمبادئ وكل الأفكار السليمة من العقل والضمير، ومن ثم إيصالها إلى الأجيال المتعاقبة مشوهة منقوصة ومحرفة تحمل في طياتها كل معاني الزيف والضلال.
إن أصول جميع الأديان الرئيسية تدعو إلى الاعتقاد بوجود الباري وتوحيده، والتسليم له بالخلق والأمر، لكن نظرة عابرة إلى تلك الطقوس تجعلك على يقين بأنها تمهد لانحراف الإنسان عن ذلك الخط العريض الواضح أو تشويه معالمه أو التهجم على حقيقته، ومن ثم تفسير المعتقد بتلك الصورة المغايرة لأجل أن تورد هذا الإنسان... أقصى موارد الجهل والشقاء، ومن ثم تجليه بتلك النتائج التي انتقلت به من توحيد الخالق وعبادته إلى الإشراك به وتقديس المخلوق وعبادته من دون الله جل وعلا.
والذي يستقرأ تاريخ التشيع استقراءً تاماً يجد أن تلك الطقوس تشكل قطب رحى المعتقدات والأساس المقدس لتلك الثقافات، وإن حاجة العوام إليها حاجة أساسية وضرورية، وتتضح تلك الحاجة في أوقات الشدة والكرب، والتي تتمثل في التنفيس العميق عن تلك العقد الكامنة في النفس الشيعية بصورة عامة والتي ورثتها من ذلك الاعتقاد الذي بثه متقدميهم من أمثال زرارة وبريد وجابر الجعفي وابان وغيرهم من رواة ذلك المورث الذي يعزز في النفس عقدة النقص والمظلومية، ومن ثم لابد من التفكير بالثأر والانتقام للتنفيس عن كل تلك العقد والكرب.
ويسعى مروجو وداعمو تلك الطقوس إلى ذلك الدور المزدوج الذي تؤديه، فهم من باب يسعون من خلالها إلى إبعاد عوام الشيعة التدخل في سياسية الحاكم الشيعي وتعميق الجهل وتغييب العقل وتخديره في هذا المجال، ومن باب آخر فقد سعوا إلى توجيه تلك الطقوس وجعلها أداة من أدوات الإنكار والخروج على الحاكم السني والتدخل في شؤون الدولة المسلمة والتحكم في سياساتها، وقد نجحوا في الأمرين معاً.
ويمكننا القول أن تلك الطقوس تعتبر من أهم الأدوات في ترسيخ المعتقد وأكثرها تأثيراً وسحراً في وجدان الطائفة، وذلك من خلال تلك المنظومة المعقدة والمتشابكة من الشعائر والممارسات التنظيمية للأفراد والجماعات بما يشكل في النهاية أداة للشر والعنف والإرهاب، ثم صور من الحرب والخراب والدمار والاضطهاد والقتل والظلم في كل البلاد السنية، وهي التي تؤصل إلى الغلو والتطرف الديني من خلال الفعل ورد الفعل، ومن خلال تلك النصوص الشاذة والضعيفة، ومن ثم استسهال إراقة الدم السني بل التمرغ فيه والتشفي بمنظره القان، لأجل الثواب والمنزلة المرجوة عند أئمة أهل البيت سلام الله عليهم لا عند الله جل وعلا،
فضلا عن أنها سفهت العقل المسلم وقادته إلى كل أنواع الجريمة من خلال صناعة ودعم المشكلات والأزمات والحروب بحجة التبشير بقرب ظهور المهدي المنتظر، بالمقابل فهي تؤدي ذلك الدور الخطر في تدمير الإنسان وإفساد البيئة وكافة مناحي الحياة، كل هذه المظاهر والأمثلة تؤكد على ذلك الترابط الوثيق بين تلك الطقوس وتلك المعتقدات وقوة تأثيرها سلباً وإيجاباً على ذلك الكائن الرخو الذي تشّرب هذه المبادئ وانصهر فيها كسبب من أسباب الثقافة والدين، لتصل به في النهاية إلى ذلك القدر المحتوم الذي لا يمكنه الفكاك والخلاص من قيوده، خصوصا تلك المعتقدات التي تصاحب أطواره وتظهر في جميع مظاهر حياته ومعاملاته وعلاقاته بالإنسان الآخر، ومن ثم ظهور التناقضات والتضاربات في ذلك المعتقد بين الشعور والسلوك والذي يتجلى في ضعف الحجة وتهافتها، وهلامية ذلك المعتقد، الأمر الذي يدعو إلى الارتماء في أحضان الأسطورة والخرافة من أجل التغيير والحركة.
ومن كل ما سبق يظهر لنا مدى حضور تلك الطقوس وأثرها في المعتقد بل وسطوتها الكبيرة والعميقة على تصرفات الفرد والجماعة وعدم إمكانية عزلها عن مصالحه النوعية، وبيان وتثبيت الهوية الذاتية بما تصوره من أفكار وانعكاسات وأفكار وقيم ترتسم في خبايا النفس والروح وتشكل جزء من عالمه الفكري من اجل تحقق الملاذ الآمن في مواجهات طوارئ الغيب المستعصية والتيارات والتقلبات الاجتماعية، وبغياب تلك الطقوس يفقد الشيعي الكثير من النضج في ادوار الثأر والانتقام ويصبح كالشجرة الجوفاء الميتة والتي لا يمكنها الصمود في وجه الرياح والعواصف.
_____________________________________________
(1) ثورة عاشوراء عند الأمام الخميني 1/ 64.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق