المصدر / وكالة يقين
رغم مرور أكثر من عام ونصف على إعلان الحكومة استعادة الموصل من مقاتلي تنظيم الدولة (داعش)، إلا أن القلق والانفلات الأمني لا يزالان سيدي الموقف في الموصل، فكثير من سكان المدينة وتجارها يتحدثون عن إتاوات وضرائب تفرض على الأطباء والتجار والمراكز التجارية والكافيهات من قبل مجاميع مسلحة.
تحقيق لوكالة “يقين” يكشف خبايا عمل المكاتب الاقتصادية لفصائل الحشد الشعبي في محافظة نينوى، وكيفية إدارة الملف الاقتصادي لتلك الفصائل والجهات المستهدفة وكيف يتم جمع الأموال.
كيف تعمل المكاتب الاقتصادية؟
في خضم وجود عديد من فصائل الحشد الشعبي في نينوى، عمدت هذه الفصائل إلى إنشاء مكاتب اقتصادية داخل مقراتها العسكرية المنتشرة بين أزقة وأحياء مدينة الموصل، هدفها متابعة الحركة التجارية في المحافظة وخاصة في مدينة الموصل، ومراقبة رؤوس الأموال، بحسب الضابط في مديرية شرطة نينوى والذي عرَّف عن نفسه في حديثه لوكالة “يقين” بـ “حميد الورشان”.
الورشان أوضح أن جميع الفصائل المسلحة في الموصل والتي تتبع قيادة الحشد الشعبي باتت لها مكاتب اقتصادية وهي كتائب الإمام علي والنجباء وعلي الأكبر والعصائب وبدر وسيد الشهداء وبابليون وولائيون وغيرها.
وعن طريقة عمل هذه المكاتب وجمعها للأموال، كشف الورشان عن أن هذه المكاتب تستحصل الأموال عن طريق الإتاوات والسيطرات والابتزاز وبعض المشاريع الاستثمارية التي استحوذت عليها.
وكشف مسؤول في مجلس محافظة نينوى في حديثه لوكالة “يقين” عن أن فصائل الحشد الشعبي ومن خلال مكاتبها الاقتصادية باتت شريكًا لجميع التجار والمقاولين في نينوى من خلال الإتاوات التي يأخذونها منهم.
وأكد المصدر الذي فضل عدم الكشف عن هويته على أن المكاتب الاقتصادية للحشد الشعبي باتت تفرض 200 دولار شهريًا على جميع أصحاب المقاهي الشبابية و400 دولار على أصحاب المطاعم وقاعات الأعراس، ونسبًا معينة على المقاولين والتجار، لافتًا إلى أن لواء ثلاثين المسيطر على مداخل الموصل من الجهة الشمالية والشرقية يأخذ إتاوات ورشاوى تقدر بـ 150 دولارًا عن كل سيارة نقل كبيرة (شاحنة) تدخل إلى الموصل أو تخرج منها.
وعن الإجراءات التي قد يتخذها المجلس تجاه هذه المعضلة، كشف المصدر عن أن حكومة بغداد ونواب نينوى لديهم اطلاع كامل على الأوضاع، لكن أي إجراء لم يتخذ تجاه تلك الفصائل ومكاتبها، مؤكدًا على أنه في حال استمرار الأوضاع على ما هي عليه، فإن الوضع الأمني في المحافظة سيشهد تدهورًا أمنيًا بعد أن ضاق الأهالي ذرعًا بتصرف تلك الحشود.
تهديد وابتزاز المكاتب
تشير كثير من الوقائع في محافظة نينوى إلى أن للمكاتب الاقتصادية للفصائل سطوة كبير في غالبية مديريات ومؤسسات محافظة نينوى، بحسب المهندس في ديوان محافظة نينوى “عمار الجادر” الذي أوضح أن جميع المناقصات والمزايدات لا تمرر ما لم توافق عليها الميليشيات أو الفصائل المسلحة المنتشرة في المدينة.
الجادر من جانبه كشف عن أن كثيرًا من مسؤولي الدوائر في محافظة نينوى وخاصة الدوائر المالكة للأراضي يتعاونون مع تلك المكاتب مقابل حصص مالية من المشاريع التي تنفذها تلك الفصائل، لافتًا إلى أن المكاتب الاقتصادية للحشود لديها ما لا يقل عن 30 طلبًا استثماريًا في هيئة الاستثمار في المحافظة، وأن جميع الموافقات الأصولية لتلك المشاريع يتم استحصالها عن طريق الضغوط التي تمارسها تلك الفصائل.
وفي هذا الصدد يقول الخبير الأمني العراقي “حسن العبيدي” في حديثه لوكالة “يقين” إن المكاتب الاقتصادية للحشد الشعبي تسيطر على مقدرات وثروات المحافظات ذات الأغلبية السنية، فضلًا عن عشرات الشركات والمؤسسات التي تملكها أو التي استولت عليها، ما أوجد حالة من الفساد داخل الهيكل الإداري للدولة العراقية بات من المستحيل على أحد مجابهته ما لم تفكك تلك الميليشيات.
وكشف العبيدي عن أن المكاتب الاقتصادية للميليشيات شبيهة إلى حد كبير بالمكاتب الاقتصادية التي بدأ فيها الحرس الثوري الإيراني في تأسيس إمبراطوريته الاقتصادية في غيران في بداية الثورة الخمينية، لافتًا إلى أن هذه الميليشيات تقلد الحرس الثوري في بناء منظومة اقتصادية مستقلة ماليًا.
ويمتد عمل هذه المكاتب الاقتصادية لمحافظة صلاح الدين، إذ إن رئيس مجلس محافظة صلاح الدين “أحمد الكريم” كان قد كشف في وقت سابق لوسائل الإعلام عن أن المكاتب الاقتصادية لفصائل الحشد الشعبي تسيطر على نوعية المستثمر، وحجم الاستثمار وتبتز المسؤولين وتضغط عليهم، فضلًا عن سيطرتها على محطات الوقود ومواقف السيارات.
وأضاف الكريم أن هذه المكاتب ما زالت تسيطر على محطات الوقود ومواقف السيارات ومنها جامعة تكريت، بقوة السلاح وهم معروفون لدى قيادة العمليات والحكومة المركزية في بغداد، لكن الجميع يلتزمون الصمت.
وأكد الكريم على أن المكاتب التابعة للحشد الشعبي كانت وما زالت تهرب نفط المحافظة من حقلي عجيل وعلّاس إلى إيران عن طريق إقليم كردستان وعن طريق محافظة ديالى.
النهب يطال أملاك الوقف
من جانبه كشف الموظف في هيئة استثمار أموال الوقف السني في الموصل “حسان العمر” في حديثه لوكالة “يقين” عن أن ممتلكات الهيئة من أراضٍ وعقارات باتت عرضة للنهب من الميليشيات، وأن ذلك يتم بتعاون مع بعض مسؤولي المحافظة.
وكشف العمر عن أن المكاتب الاقتصادية للحشد استولت على أكثر من 15 عقارًا وقطعة أرض تابعة لهيئة استثمار أموال الوقف السني، بحسبه.
تتعدد الطرق التي تتبعها المكاتب الاقتصادية للحشود في استحصال الأموال، إذ إن التهديد والإتاوات تعد إحدى الطرق الناجعة في استحصال الأموال، إذ يقول أحد العمّال من الذين يعملون في محلات حلويات الذهبي إن إحدى المكاتب الاقتصادية للحشود كانت قد فرضت إتاوة على حلويات الذهبي في العام الماضي تقدر بـ 60 ألف دولار، مضيفًا أنه في بداية عام 2019، أتت عناصر مسلحة من ذات المكتب وطلبت من صاحب المحل مبلغ 160 ألف دولار، بحسبه.
وأشار المصدر إلى أن صاحب المحل امتنع عن دفع تلك الأموال، وقرر مغادرة المدينة إلى أربيل لافتتاح محل هناك، وإغلاق فرع الموصل بسبب الضغوطات الكبيرة الأمنية والاقتصادية التي يتعرض لها.
إقرار نيابي وأمني
اتهامات كبيرة للفصائل بنهب المدن المنكوبة، من خلال السيطرة على الاقتصاد العراقي وخلق موارد مالية لها من عن طريق جبي الأموال وفرض الإتاوات وتهريب النفط الخام والمخدرات وتبييض الأموال، إذ يقول النائب عن محافظة نينوى “شيروان الدوبرداني” في حديثه لوكالة “يقين” إن المكاتب الاقتصادية المنتشرة في الموصل تابعة لفصائل معينة كبيرة وصغيرة في الحشد الشعبي ومن أبرزها بدر والعصائب وجند الإمام وسيد الشهداء والنجباء والخراساني.
وأكد الدوبرداني على أن هذه الفصائل تفرض الإتاوات على أهل الموصل وتهددهم بالقتل وبتفجير سيارات وعبوات ناسفة بالقرب من محلاتهم التجارية أو مطاعمهم في حالة عدم استجابتهم، كما حصل مع مطعم “أبو ليلى” الشهير في منطقة الموصل الجديدة في الجانب الأيمن من الموصل قبل 4 أشهر، على حد تعبيره.
من جهته، كشف الضابط في مديرية مكافحة الإجرام في نينوى “علي سلطان” في حديثه لوكالة “يقين” عن أنه على الرغم من إلغاء النقاط الجمركية بين أربيل ودهوك من جهة والموصل من جهة أخرى، إلا أن تلك الفصائل متمثلة بالمكاتب الاقتصادية لها، أنشأت نقاطًا جمركية غير رسمية من خلال نقاط التفتيش الأمنية المنتشرة على طول الطريق بين أربيل ودهوك والموصل، وأنها تستحصل على الإتاوات من خلل تلك النقاط الأمنية بمعدل لا يقل عن 300 دولار عن كل سيارة حمل كبيرة تمر من خلالها باتجاه الموصل ويرتفع المبلغ بحسب نوع البضائع الداخلة إلى الموصل.
وأشار سلطان إلى أن تلك المكاتب الاقتصادية اغتنت وأصبحت ذات ثراء فاحش من خلال هذه النقاط الجمركية، لافتًا في ختام حديثه إلى أن أي قوة في محافظة نينوى لا تستطيع محاسبة تلك المكاتب أو الاقتراب منها، لما لها من سلطة كبيرة ودعم عسكري كبير من قيادة عمليات الحشد ومديرية الأمن.
تبريرات وأعمال فردية!
رغم اتساع حجم الاتهامات ضد المكاتب الاقتصادية للفصائل المسلحة في نينوى، إلا أن قادة الحشد الشعبي يصرون على أن هذه الأعمال فردية ولا تنم عن منهجية متبعة لدى فصائل الحشد، بحسب القيادي في الحشد الشعبي في محافظة نينوى “جعفر الموسوي”.
إذ يؤكد الموسوي في حديثه لوكالة “يقين” على أن ما يحدث في الموصل من تصرفات لفصائل الحشد الشعبي، تحدث بصورة فردية ولا تشمل الجميع وأن غالبية منتسبي الحشد الشعبي منضبطين عسكريًا ومهنيًا.
وأشار الموسوي إلى أن مديرية أمن الحشد الشعبي اعتقلت عددًا من المنتسبين للحشد بعد إلقاء القبض عليهم متلبسين بأخذ رشاوى وإتاوات من مواطنين، لافتًا إلى أن قيادة عمليات الحشد الشعبي (محور نينوى) اتفقت مع قيادة عمليات نينوى على محاسبة جميع من تثبت عليه أي مخالفات عسكرية أو تورطه في أخذ رشاوى من المواطنين أو ابتزازهم، بحسبه.
من جهته يؤكد ضابط في قيادة عمليات نينوى فضل عدم الكشف عن هويته مقابل الحديث لوكالة “يقين” على أن فصائل الحشد لا تخضع لقيادة عمليات نينوى، وأن كثيرًا من مناطق حول الموصل (سهل نينوى) تسيطر عليها الفصائل المسلحة
التي تتبع الحشد، ولا وجود لأي قوة عسكرية تتبع قيادة العمليات، لافتًا إلى أن منطقة قضاء مخمور من ضمن تلك المناطق التي تستخدمها بعض الفصائل المسلحة التابعة للحشد في تهريب نفط القيارة إلى إقليم كردستان.
المصدر كشف في حديثه لوكالة “يقين” عن أن قيادة العمليات أحاطت وزارتي الدفاع والداخلية بالخروقات والتجاوزات التي تفتعلها بعض فصائل الحشد، إلا أن الجهات الأمنية في بغداد لم تحرك ساكنًا، مؤكدًا على أن الأمر تحول إلى فعل ممنهج من الحشود في أخذ الرشاوى والإتاوات والاستيلاء على الممتلكات العامة والخاصة.
خبراء: نينوى نحو الأسوأ!
من جهته يرى الخبير الأمني والضابط في الجيش العراقي السابق “ضياء أنور” أن الأوضاع في محافظة نينوى بدأت تتجه نحو الأسوأ، مع عودة الخروقات الأمنية في أطراف المدينة، إضافة إلى تذمر سكان الموصل مما تقدم عليه الحشود العسكرية المنتشرة في المدينة، منوهًا إلى عودة الأوضاع في نينوى إلى ما قبل 2014.
وبحسب أنور، فإنه ما لم تتخذ الحكومة المركزية في بغداد خطوات جريئة وسريعة في وضع حد لخروقات الحشد الشعبي في نينوى، فإن جميع مدن محافظة نينوى ستشهد تدهورًا أمنيًا كبيرًا خلال الأشهر القادمة، مع هروب رؤوس الأموال في المحافظة، وبدء نزوح طوعي جديد لسكان الموصل باتجاه محافظات إقليم كردستان.
وختم أنور حديثه لوكالة “يقين” بالإشارة إلى أن ما يحدث في الموصل ينم عن ضعف كبير في أجهزتها الأمنية الرسمية في ظل تغلل كبير للحشود في مختلف مفاصل الحياة الاجتماعية والاقتصادية للموصل.
أما المحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية “محمد عزيز” فيؤكد في حديثه لوكالة “يقين” على أن السلطات التنفيذية والتشريعية في الموصل والمتمثلة بالمحافظ ومجلس المحافظة، باتوا شركاء لفصائل الحشد في الاستيلاء على مقدرات المدينة والتنكيل بأهلها.
وكشف عزيز عن أن عديدًا من أعضاء مجلس محافظة نينوى باتوا مستثمرين وشركاء للأحزاب السياسية والفصائل العسكرية في نهب أرزاق مواطني مدينة الموصل، في ظل أوضاع لا تبشر بخير في المدينة التي ما زال الركام ورائحة الجثث المتفسخة تفوح من الأزقة الضيقة في المدينة القديمة في الموصل.
مجلس نينوى يمتنع عن التعليق!
وعند التواصل مع أعضاء ومصادر في مجلس محافظة نينوى، للحديث بشأن هذه المكاتب وأعمالها، امتنعوا عن الرد أو الخوض في هذا الموضوع، لكن رئيس لجنة الخدمات والإعمار في المجلس “عبد الرحمن الوكاع” تحدث قرار المجلس الذي اتخذه قبل نحو ثلاثة أشهر؛ يمنع بموجبه على دوائر الدولة المالكة للأراضي من تحويل جنس الأرض من زراعي إلى تجاري أو سكني، كما منعت بموجبه بيع عقارات الدولة للمواطنين.
وأكد الوكاع في حديثه لوكالة “يقين” على أن ذلك القرار أعقب عدة حالات من استيلاء جهات متنفذة -لم يسمها- على أراضي الدولة، أو شرائها من دوائر الدولة بأثمان بخسة، لافتًا إلى أن تنفيذ ذلك القرار يقع على عتاق الحكومة المحلية المتمثلة بمحافظة نينوى ومحافظها “نوفل العاكوب”، على حد تعبيره.
المصدر:وكالة يقين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق