موقع القادسية الثالثة /قسم منهجنا ومشروعنا
بقلم الشيخ الدكتور المفكر طه حامد الدليمي
"من لم يكن له مشروع كان ضحية لمشاريع الآخرين"..!
ولم يكن التاريخ هو الشاهد الوحيد، بل الجغرافية والواقع الأليم كان الشاهد الثاني؛ وسحب الزمن علينا - نحن سنة العراق - سلسلته الثقيلة، فكانت (المقاومة العراقية) العظيمة آخر حلقة في سلسلة التضحيات المهدورة؛ لقد بذل فيها أعظم الأثمان، وحققت أعظم الإنجازات فأخرجت المحتل وأحلافه من العراق وعلى رأسه دولتان عظميان هما أمريكا وبريطانيا، لكنها فشلت في أن تمسك الأرض فسلمتها لغيرها، ولم يكن أمامها سوى هذا الخيار. بل عجزت عن أن تحمي نفسها وأفرادها فهم اليوم بين معتقل ومستخْفٍ وشريد!
وتسأل: لماذا؟ وأجيبك: لأنها سارت في الطريق نفسه التي سلكتها أخواتها من قبل، فدخلت المعمعان وخاضت الحرب العوان بلا مشروع ناضج. ولم تكن المقاومة وحدها التي تعمل بلا مشروع، فالعمل السياسي كان بلا مشروع. ومثله العمل الديني والدعوي، والعمل الخيري والإغاثي، وبقية الأعمال والأنشطة الخيرة؛ كلها مبتورة عن نهاياتها، قاصرة عن كمالاتها، فكأنها حبات من الخرز بلا سلك ينظمها، أو حلقات تناثرت بعد أن انقطعت سلسلتها. المصير نفسه كان نهاية ثورات (الربيع العربي). والشيء عينه يجري في سوريا، ومرشح لنهاية مشابهة ..
المشروع المدني هو منظومة أنشطة فكرية وعملية منتجة، تتعلق بإنقاذ المجتمع وبنائه وتطويره.
تتكون الأنشطة الفكرية من تعريف بالهوية، وتحديد للقضية، وتعيين للهدف، وخطة مرسومة، وتقدير للموارد البشرية والمادية، وحساب للزمن المستغرق للتنفيذ.
وأما الأنشطة العملية فتقوم على إيجاد وإعداد الموارد البشرية والمادية، مع التنمية والتطوير المستمر لهما في سبيل تنفيذ الخطة وتحقيق الهدف ضمن الزمن المحسوب.
لا بد لهذه الأنشطة من أن تكون متكاملة تسد جميع الفراغات المهمة في الجهد المبذول. متخادمة يشد بعضها بعضاً ويقويه ويضاعف من نتائجه. تتم في نسق واحد فهي ليست أفعالاً معزولة عن بعضها، ولا متنافرة يضادد بعضها بعضاً. تقوم على تنفيذها مؤسسة ناظمة تتوزع الأدوار فيما بين أفرادها ودوائرها، كي تؤدي إلى الهدف المنشود. ولهذا وصفنا الأنشطة بنوعيها بأنها (منظومة).
وأما وصف الأنشطة بأنها (منتجة) فمعناه قدرة هذه الأنشطة على تحقيق الهدف. وهو إنقاذ المجتمع من حالة جمعية خطيرة واقعة به أو مهددة له، والانصراف إلى إنشاء ما يحتاجه من مؤسسات تحقق مصالحه في شتى المجالات العلمية والعملية، وتحفظها وتنميها وتطورها نحو الأحسن على الدوام.
من شروط الفكرة أن تكون نابعة من الواقع، ومبنية على العقيدة أو منسجمة معها. على أن العقيدة بمعناها الكامل – وهو التوحيد والإيمان - أساس كل فكر وعمل في أي مشروع رباني.
المشروع المدني في عصر النبوة
مشروعنا رباني: ينطلق من الوحي ويعود إليه. فنحتاج إلى أن نتوقف قليلاً لنتعرف على ملامح المشروع المدني في الإسلام أول ظهوره، كي يكون مشروعنا مبنياً على أساس مكين، لا بصفته الواقعية فقط، وإنما الشرعية أيضاً.
مرّ المشروع المدني في تاريخ الإسلام بثلاث مراحل هي:
المرحلة الأولى .. الفكرة وإعداد القادة :
بدأت المرحلة الأولى بكلمة.. هي (اقرأ) التي تضمنها قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1). فكانت (الفكرة). والفكرة هي بداية الطريق في مشروع الإسلام العظيم. وتشتمل على:
1. عقيدة (لا إله إلا الله .. محمد رسول الله)، وهي الأساس.
2. الغاية العليا، وهي رضى الله جل في علاه، وتحرير الإنسان من ألوهية هواه وعبودية سواه.
3. الهدف، وهو تكوين دولة إسلامية الهوية، عالمية الامتداد، وإن كانت في بدئها محلية الانطلاق؛ فهذا هو التسلسل الطبيعي للأشياء: العالمية للفكرة، والمحلية للتطبيق ضمن القدرة. تتحقق في هذه الدولة العبودية لله وحده، بتطبيق شريعته والخضوع لأوامره على أساس العقيدة بركنيها؛ لإيجاد البيئة التي يتحقق فيها التحرر، ويحافظ فيها على الحرية.
4. الهوية، وهي الإسلام. فكان الإسلام ديناً، وفي الوقت نفسه كان هويةً. وذلك قبل نشوء الفرق البدعية، التي احتاجت إلى هوية أُخرى تميز أهل الإسلام الأنقياء، وهي (السنة والجماعة).
5. القضية: ففي الطريق نحو الهدف - وهو إقامة المجتمع المسلم، وحمل الرسالة إلى العالم - قامت المعوقات ووجدت التحديات متمثلة بأهل الباطل الذين استثارهم الحق فكانوا لحملته أعداءً. ونشب الصراع فنشأت القضية استجابةً لتحدٍّ مفروض في واقع مشهود. فكانت عملاً دؤوباً لأزاحة المعوقات ومواجهة التحديات تحقيقاً للمصالح العليا للمجتمع المسلم، وتمكيناً له من أداء رسالته إلى الناس أجمعين.
ويدخل مع التبشير بالفكرة في هذه المرحلة، ومن دون فصل، انتخاب أو إيجاد القادة وإعدادهم بتوعيتهم بالفكرة، وتربيتهم بالإيمان، وتهيئتهم بالجهاد.
المرحلة الثانية .. العمل المجتمعي :
لا يمكن أن يتقدم المشروع بعد ذلك دون جمهور واعٍ يلتحم بالقيادة، فكان الانطلاق من المجتمع ومعايشة الجمهور بآماله وآلامه وملامسة حاجاته المعنوية والمادية. وبهذا انتقل المشروع من الفكرة إلى العمل المجتمعي، فحصل التلاحم المنشود بين الجهات الثلاث فكانت كالجسد الواحد:
1. الفكرة: أساساً وغاية وهدفاً وهوية وقضية
2. القيادة: بكافة مستوياتها، وعلى اختلاف أدوارها والمسؤوليات المنوطة بكل مستوى قيادي.
3. الجمهور المسلم
كل ذلك حسب خطة متمرحلة طبقاً للظرف، وتناغماً مع السياق العام.
المرحلة الثالثة .. الكيان السياسي :
تكلل ذلك الجهد الجبار بوجود كيان سياسي مستقل (المدينة): يعبر عنه عمل سياسي، ويحميه جهد عسكري وجيش عقائدي. فكان النصر أخيراً.. وكانت دولة الإسلام. فتحقق الهدف العظيم صعداً نحو الغاية الربانية المنشودة.
وهكذا نرى أن المشروع العسكري يأتي في آخر السلسلة، وكذلك المشروع السياسي. كما نرى أن أياً من هذين المشروعين - أو كليهما - عاجز عن بلوغ الهدف وتحقيق ذلك الإنجاز ما لم ينطلق من أساس. فجاء المشروع المدني جواباً على هذا الإشكال، وخروجاً من هذا المأزق. وجسماً حياً نابضاً ينطلق منه الجناحان الضاربان: السياسي والعسكري.
عناصر المشروع المدني
المشروع المدني الذي نعنيه إذن يتكون من العناصر التالية:
1. الفكرة.. وتتضمن (العقيدة والغاية العليا والهدف والهوية والقضية)
2. منظومة القيادة
3. الجمهور المرتبط بالقيادة
4. الخطة المحكمة (وما يتبعها من موارد وآليات)
5. الأنشطة العملية
6. الزمن
المهام الأساسية للمشروع المدني
في المشروع المدني:
1. تولد الفكرة بالتأمل والتدبر، وتنمو بالرعاية والتعاطي، وتنضج بالتهذيب والتجريب.. ثم تترك مفتوحة النهايات.
2. يومض الإلهام، وينبثق التجديد، ويلتمع الإبداع.
3. تنمى القدرات وترعى الخبرات حسب الاختصاص؛ (فكل ميسر لما خلق له).
4. تمارس الشورى، وتوضع لها الآليات المناسبة.
5. يمارس التشريع والتخطيط، وترسم السياسات.
6. توزع المهام على القيادرات والإدارات ضمن الهيكلية التراتبية، وحسب النظام الداخلي الموضوع.
7. تهيأ الموارد وتنمى وتستثمر.
8. تحدد المراحل وتعطى كل مرحلة ما يناسبها من الأنشطة.
9. يتم الإشراف على التنفيذ.
10. يقوم رأس المؤسسة أو من ينيبه بتمثيل المؤسسة في المحافل والدوائر الرسمية داخلياً وخارجياً.
باستحضار ما سبق بيانه لا يبقى سوى:
1. تفعيل هذه العناصر على الواقع. وهذا هو "كلمة سر" المشروع.
2. إعداد القيادة السياسية، انطلاقاً من الجمهور واعتماداً عليه، للتعبير عن المشروع.
3. تكوين القوة العسكرية المانعة، قبل المباشرة بالتعبير من خلال القيادة السياسية الفاعلة؛ فسياسة بلا قوة مقامرة بأوراق مكشوفة.
نلفت الانتباه هنا إلى أن القيادة المدنية هي القيادة العليا للمشروع برمته.
أما القيادة العسكرية والسياسية فهي جهات تنفيذية وشوروية، وإن يكن لهما ممثلون في القيادة العليا، ولكن بصفتهم المدنية. وبهذا يتم ضبط القوة ويمنع تحكمها بالفكرة، كما يحال بين العسكري وطغيان القوة التي منها يولد القائد الصنم، وبين السياسي والانزلاق في دهاليز السياسة، الذي يدفعه إلى التمرد والانفلات عند فقدان الرادع، في غياب القيادة العليا بمشروعها المدني الأصيل وذراعها العسكري الطويل. وهكذا يخرج من دائرة القيادة العليا كل من يوكل إليه ممارسة النشاط السياسي أو العسكري.
جيل الهزيمة
في غياب المشروع المدني يكون مصيرنا كمصير بني إسرائيل يوم تاهوا في الأرض أربعين سنة، ولم ينتفعوا بوجود قائد هو من أعظم القادة بين الأنبياء عليهم السلام، الذي جازاه شعبه أذى وعصياناً وعقوقاً. وقد سجل القرآن العظيم ذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) (الأحزاب:69)، وذلك في سياق تهيئة هذه الأمة لتسلم الأمانة الربانية واستلام زمام قيادة البشرية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا * إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب:70-72).
ومثل بني إسرائيل مع موسى عليه السلام كان شيعة الكوفة مع علي رضي الله عنه. وما يغني القادة (وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:101-103). وفي ذلك درس عظيم، والله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
جيل النصر
يوم يتم تفعيل عناصر هذا المشروع، ويتكامل الربط بين أجزائه جميعاً، يكون قد ولد فينا (جيل النصر)، الذي يستعصي على القوى الخارجية، والداخلية أيضاً، أن تمنعه من الوصول إلى هدفه، أو أن يقطف ثمار جهده بنفسه لنفسه. أو أن يضطر قادته لأن يكونوا عملاء أو أجراء عند غيرهم. وعندها لن يقاتلوا بعد اليوم بالنيابة عن الأعداء - كما هو الحال التي وجدنا عليها أمتنا منذ مئة عام - ولن يكونوا ضحية لمشاريع الآخرين. وهذا بعد عناية الله تعالى ورعايته.
هذا باختصار مقصودنا بـ(المشروع المدني) المفقود منذ اضمحلال دولة الإسلام ثم زوالها قبل حوالي مئة عام، الذي نسعى لتأسيسه وتحقيقه في واقع بلدنا محلياً، ثم في محيط أمتنا عالمياً. مستنيرين بكتاب ربنا جل جلاله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم المطهرة وسيرته العطرة. عاملين بالحكمة القائلة: (فكر عالمياً.. وتصرف محلياً). مترقبين ساعة النصر، وما هي على العاملين المخلصين ببعيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق